زواج بلا تكافؤ: حين ينهار الأصل أمام طمع النفوس الفقيرة
بقلم: محمود سعيد برغش
في زمنٍ اختلطت فيه المعايير، وتقدّم المال على القيم، وارتدت الأخلاق أقنعة خادعة، أصبحت الزيجات تقوم على مظهر لا جوهر، وواجهة لا عمق. زيجاتٌ كُتب لها الشقاء لا السعادة، لا لشيء سوى أن “التكافؤ” لم يكن حاضرًا حين وُضعت الأيدي في بعضها، وغُيّب العقل أمام العاطفة، وأُهملت الفِطنة أمام زيف البريق.
لسنا هنا بصدد الحديث عن الفقر والغِنى بمفهومهما المادي، بل عن فقرٍ أعمق: فقر النفوس، ضيق الأخلاق، قلوبٌ حاقدة لا ترى في النعمة إلا غنيمة، ولا في الشريك إلا فرصة لاستنزاف النور من روحه.
القرآن الكريم… أساسٌ للتكافؤ
قال الله تعالى:
“الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ ۖ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ” (النور: 26)
في هذه الآية توجيهٌ واضح بأن الطيب لا يليق به إلا الطيب، في الدين، والأخلاق، والمعدن. فالتكافؤ في الزواج ليس رفاهية، بل ضرورة لبناء بيتٍ سليمٍ، قائمٍ على الانسجام الروحي والفكري، لا على تضاد الطباع وتنافر النوايا.
السنة النبوية… معيار الدين والخلق
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
“تُنكح المرأة لأربع: لمالها، ولحسبها، ولجمالها، ولدينها، فاظفر بذات الدين تربت يداك” (متفق عليه)
وفي الحديث الآخر:
“إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه، إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد كبير” (رواه الترمذي)
الرسول الكريم لم يذكر الدين وحده، بل قرنه بالخُلُق، لأن الإيمان الحقيقي يثمر أخلاقًا راقية، لا صلاةً شكلية تُخفي قسوة قلبٍ وغلّ صدرٍ لا يليق بالحياة الزوجية.
كلمة الصحابة والعلماء في الكفاءة
قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه:
“تخيروا لنطفكم، فإن العرق دسّاس”.
كلماتٌ قليلة لكنها تحمل عُمق الفهم الإنساني والاجتماعي. فالطبع يغلب التطبع، وإن تزيّن الرديء بالورع، سرعان ما ينكشف القناع.
ويرى الإمام مالك:
“لا أرى أن يُزوّج الرجل ابنته من غير كفء، ولو كان صالحًا، لأن عدم التكافؤ قد يجلب الإهانة أو الفشل”.
أما الإمام الشافعي فأكّد:
“الكفاءة معتبرة في الدين والنسب، لما لها من أثر على سعادة الزواج واستقراره”.
وهو ما أجمع عليه فقهاء المذاهب الأربعة، مع اختلافهم في تفاصيل الكفاءة، لكنهم لم يُغفلوا أثرها في دوام المودة أو غيابها.
قصص الواقع لا تُكذّب النصوص
كم من فتاة من بيئة طيبة، نقية، محترمة، دخلت بيتًا ظنته مأوى، فوجدته فخًا!
بدأت حياتها بابتسامة أمل، ثم تحوّلت إلى صمتٍ دامٍ، وجدرانٍ تتنفس الغيرة، وأعينٍ تُراقبها لا حبًا، بل حسدًا.
يحاصرونها في كل نعمة، ويحاسبونها على كل ابتسامة، حتى الحب الذي ظنّت أنه سيحميها، صار سيفًا يُشهره عليها زوجٌ ضعيف أمام عائلته، مهزومٌ أمام أمه، غريبٌ عنها كلما اقتربت.
وفي مشهدٍ موجع:
أخت تُهان لطيبتها.
ابن يُساق إلى الذل رغم علمه وأدبه.
أمٌ تبكي قهرًا على ابنتها.
وأبٌ يتحسر لأنه ظنّ أنه زوّجها رجلًا، فإذا هو ولدٌ في ثوب رجل.
النفوس المريضة لا يُصلحها المال
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
“لو كان لابن آدم واديان من مال، لابتغى ثالثًا، ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب” (رواه البخاري)
النفوس المريضة لا تشبع، ولا ترضى، ولا تحمد. وإن غُمروا بالخير، ردّوه بالحقد. هؤلاء لا يُصلحهم مال، بل يُزيدهم جشعًا. وإن دخلوا بيتًا طيبًا، أفسدوه.
الخاتمة: لا تضع الجوهرة في الطين
الحب وحده لا يكفي، والتنازل بدافع الطيبة قد يُغرق صاحبه في ندمٍ طويل.
فلا تزوجوا بناتكم لمن لا تُطابق نفوسهم نفوسكم، حتى وإن صلّى وصام، فالدين خُلق قبل أن يكون مظاهر.
فالزواج ليس عقدًا على ورق، بل عهد بين أرواح. ومن لا يعرف قيمة النعمة، لا يُؤتمن عليها.