منوعات

ترامب والشرق الأوسط : غياب الرؤية وهيمنة الصوت الإسرائيلي

ترامب والشرق الأوسط : غياب الرؤية وهيمنة الصوت الإسرائيلي

بقلم : يوحنا عزمي

لا يملك الرئيس الأمريكي دونالد ترامب استراتيجية واضحة أو نهجًا متماسكاً للتعامل مع أزمات الشرق الأوسط المتفجرة ، ولا

مع غيره من مناطق الصراع الساخن حول العالم. فالرجل يتصرف بردود فعل وقتية ، بلا خريطة طريق، ولا رؤية استباقية، ولا حتى إدراك حقيقي لتعقيدات هذه البقع المشتعلة. وكل ما يمكن وصفه بأنه “تفكير خارجي” في إدارته ، لا يعدو كونه صدى لما تمليه عليه حكومة نتنياهو اليمينية المتطرفة ، وما يمرره له اللوبي الصهيوني المحيط به في البيت الأبيض ، وعلى رأسه صهره جاريد كوشنر، الذي لم يغادر المشهد فعليًا حتى وإن توارى عن الواجهة.

كوشنر لم يكن مجرد وسيط أو مستشار عابر في إدارة ترامب، بل كان بمثابة العقل الاستراتيجي الذي رسم خريطة “صفقة القرن” وسوّق لما يسمى بالسلام الإبراهيمي ، وكأن الصراع الفلسطيني الإسرائيلي يمكن حله بنموذج علاقات عامة وتحالفات اقتصادية فوق أنقاض العدالة. وبعد أن رُفض مشروعه بشكل واسع ، تراجع خطوة إلى الوراء لكنه لم يغادر المسرح. لا يزال يمارس نفوذه عبر القنوات الخفية ، يهمس في أذن الرئيس ما يريده الإسرائيليون أن يسمعه، ويتحرك كأنما هو سفير تل أبيب الدائم في البيت الأبيض. ارتباطه العضوي بالمؤسسات السياسية والأمنية والمالية في إسرائيل يجعله أداة تأثير بالغة الخطورة ، ويمنحه سلطة تتجاوز منصبه الشكلي أو غيابه الإعلامي.

المشكلة مع ترامب ليست فقط في مواقفه، بل في غياب “المبدأ” ذاته. إنه لا يقدم سياسة خارجية تُفهم أو تُبنى عليها توقعات أو تحليلات. فلا أولويات معلنة ، ولا أهداف محددة، ولا تصور شامل. وكأن السياسة في عهده أصبحت نوعًا من “الارتجال الدولي”، حيث تُدار ملفات خطيرة بنفس أسلوبه في إدارة شركاته أو عروضه التلفزيونية. هذا ما يجعله على النقيض تمامًا من رؤساء أميركيين سابقين مثل ريتشارد نيكسون الذي طوّر نظرية احتواء السوفييت، أو جيمي كارتر الذي تبنى الدفاع عن حقوق الإنسان كأداة ضغط دولي ، أو رونالد ريغان الذي أحدث زلزالًا في النظام العالمي من خلال مبادرته للدفاع الاستراتيجي ، وفتح الطريق لانهيار الاتحاد السوفيتي. هؤلاء قادوا العالم بتصورات. أما ترامب، فلا يقود شيئًا، بل يركض وراء مصالح آنية ، وهواجس شخصية ، وخطابات انتخابية مشحونة.

ولعلّ أكثر ما يثير القلق هو استخدامه المتكرر لعبارة “الشرق الأوسط الجديد”، كما لو أن الكلمات وحدها تصنع الواقع. لا رؤية حقيقية ، لا خريطة سياسية ، لا تصور لمستقبل شعوب تنهشها الحروب والفقر والانقسامات. مجرد كلمات فضفاضة تُقال في المؤتمرات الصحفية أو خلف الطاولات المستديرة ، دون أن يجرؤ على الإجابة عن سؤال بسيط : كيف يمكن بناء شرق أوسط جديد فوق أطلال الفوضى دون حلّ جذورها ؟ كيف يقفز فوق الدماء والجراح والبؤس الشامل ، من خلال سياسة حرق المراحل ، دون مصالحة ، دون عدالة ، دون مصارحة تاريخية حقيقية؟

الأخطر من كل ذلك أن هذا الخطاب الأمريكي الغارق في الغطرسة لا يقدّم سوى المزيد من الفراغ السياسي، ويجر المنطقة خلفه كأنها ملزمة باللحاق برئيس لا يعرف إلى أين يسير ، لكنه يصر على أن يقود. تصريحات جوفاء ، تهديدات صاخبة ، وحلول تبدو كأنها طُبخت في عقل سوقي لا يفهم سوى لغة الصفقة، لا منطق الدولة. والنتيجة أننا لا نعرف إن كان ترامب يفاوض العالم كرئيس لأقوى دولة ، أم كمضارب يتعامل مع الأزمات كفرص استثمارية.

هذه هي المعضلة الحقيقية : أن نجد أنفسنا في لحظة تاريخية حرجة تُدار فيها الملفات الأخطر في العالم بعقلية سطحية، وبأدوات مشبوهة ، ومن خلال شراكة خفية مع أكثر الحكومات تطرفًا في تاريخ إسرائيل. المشكلة ليست فقط في ترامب ، بل في زمن كامل تُختزل فيه السياسات في نزوات فرد ، وتُرسم فيه خرائط المصير الإقليمي من مكتب رجل لم يقرأ كتابًا واحدًا في التاريخ ، لكنه يكتب مستقبل المنطقة بجرة تغريدة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى