حلب بين الميثاق الوطني ونفوذ أنقرة
حلب والجدل
كتب ضاحى عمار
تُطرح حلب اليوم في قلب مشهد إقليمي شديد التعقيد، بعدما عاد اسمها بقوة إلى الخطاب السياسي والإعلامي التركي، مقترنًا بما يُعرف بـ«الميثاق الوطني»، في وقت لا تزال فيه المدينة تعاني آثار حرب طويلة وانقسام فعلي في محيطها الجغرافي. وبين حديث عن حدود تاريخية وأخرى عاطفية، وممارسات ميدانية على الأرض، تتصاعد المخاوف من أن تتحول حلب إلى ساحة نفوذ دائم لا مجرد ملف أمني عابر.
الخطاب التركي
ومن داخل الخطاب التركي، تظهر إشارات متكررة إلى ارتباط تاريخي بين أنقرة وحلب، يعود إلى الحقبة العثمانية حين كانت المدينة واحدة من أهم ولايات السلطنة. هذا الإرث، الذي انتهى سياسيًا وقانونيًا مع معاهدة لوزان عام 1923، عاد ليُستدعى اليوم بلغة جديدة لا تطالب بالضم المباشر، لكنها تلمّح إلى «مسؤولية تاريخية» و«حدود وجدانية» تتجاوز الخرائط المعترف بها دوليًا.
الميثاق الوطني
وتستند هذه اللغة إلى ما يُسمى «الميثاق الوطني»، وهو وثيقة صدرت عام 1920 عن البرلمان العثماني الأخير، رسمت تصورًا مثاليًا لحدود الدولة التركية بعد الحرب العالمية الأولى، شملت شمال سوريا وولاية حلب. ورغم أن الجمهورية التركية تخلت رسميًا عن هذه التصورات، فإن التيارات القومية لا تزال تستخدمها كمرجعية رمزية لتأكيد أن تلك المناطق اقتُطعت قسرًا بفعل قرارات استعمارية.
مبررات التدخل
وتُبرر أنقرة وجودها العسكري في شمال سوريا بدوافع الأمن القومي ومواجهة التنظيمات الكردية المسلحة، إلا أن ربط هذا الوجود بخطاب تاريخي يثير تساؤلات حول الأهداف بعيدة المدى. فالتوغلات العسكرية، وسياسات التتريك في بعض مناطق ريف حلب، وفرض التعامل بالليرة التركية، كلها خطوات تُقرأ سياسيًا باعتبارها تثبيت نفوذ يتجاوز البعد الأمني المؤقت.
رؤية أمنية
ويؤكد اللواء شبل عبد الجواد، رئيس الشرطة العسكرية سابقًا ورئيس هيئة مكافحة الإرهاب بالمنطقة العربية، أن «الخطاب التركي حول حلب يخلط بين الأمن والسياسة والتاريخ، مستغلًا حالة السيولة التي فرضتها الحرب السورية». ويضيف أن «الميثاق الوطني لا يملك أي قيمة قانونية اليوم، لكنه يُستخدم داخليًا لحشد الرأي العام وتبرير التمدد خارج الحدود، دون إعلان نية الضم الصريح».
قراءة سياسية
وفي السياق نفسه، ترى الدكتورة لمياء عبد الله، رئيس الرابطة المصرية المغربية للتواصل بين الشعوب، أن «إحياء الميثاق الوطني يعكس أزمة سردية داخل تركيا أكثر مما يعكس حقائق تاريخية قابلة للتطبيق». وتوضح أن «حلب مدينة سورية خالصة وفق القانون الدولي، وأي محاولة لربطها بهوية أخرى تصطدم باعتراف دولي ثابت بسيادة سوريا وحدودها».
المشهد الإقليمي
وتكشف قراءة المشهد الإقليمي أن عودة هذا الخطاب بعد عام 2011 لم تكن مصادفة، بل جاءت مع انهيار التوازنات القديمة وظهور فراغات نفوذ حاولت قوى إقليمية ملأها. وفي هذا الإطار، سعت تركيا إلى تقديم وجودها في ريف حلب بوصفه عامل استقرار نسبي، مستندة إلى روابط اقتصادية واجتماعية قديمة عبر الحدود.
واقع المدينة
لكن الواقع داخل حلب يظل أكثر تعقيدًا من أي سردية سياسية، فالمدينة تعاني دمارًا واسعًا في بنيتها التحتية، وتراجعًا حادًا في الخدمات، وانقسامًا فعليًا بين مركز يخضع للدولة السورية وأطراف شمالية تحت نفوذ تركي مباشر أو غير مباشر. هذا الواقع يهدد بإطالة أمد الأزمة ويجعل التعافي مرهونًا بتفاهمات إقليمية لم تنضج بعد.
سيناريوهات المستقبل
ويبقى مستقبل حلب مفتوحًا على سيناريوهات متعددة، من استعادة الدولة السورية سيطرتها الكاملة، إلى استمرار واقع النفوذ المتداخل في محيطها. وبين هذه الاحتمالات، تظل الحقيقة الثابتة أن لاالميثاق الوطني لا يمنح أنقرة أي حق قانوني، وأن مصير المدينة سيتحدد بميزان القوى الإقليمية وقدرة
السوريين على حماية وحدتهم وسيادتهم
زر الذهاب إلى الأعلى