جوهرة ثمينة تتعلق بها روح المرء
بقلم / محمـــد الدكـــروري
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل الله فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله أما بعد يقول الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز في خطبته “إن الدنيا ليست بدار قراركم، كتب الله عليها الفناء، وكتب الله على أهلها منها الظعن، فكم من عامر موثق عن قليل يخرب، وكم من مقيم مغتبط عما قليل يظعن، فأحسنوا رحمكم الله منها الرّحلة بأحسن ما بحضرتكم من النّقلة، وتزودوا فإن خير الزاد التقوى، وإذا لم تكن الدنيا للمؤمن دار إقامة ولا وطنا فينبغي للمؤمن أن يكون حاله فيها على أحد حالين، إما أن يكون كأنه غريب مقيم في بلد غربة، همه التزود للرجوع إلى وطنه الأول، أو يكون كأنه مسافر غير مقيم البتة.
بل هو ليله ونهاره يسير إلى بلد الإقامة، فلهذا وصّى النبي المصطفي صلي الله عليه وسلم ابن عمر أن يكون في الدنيا على أحد هذين الحالين” ولهذا كان المؤمن غريبا في هذه الدار أينما حلّ منها فهو في دار غربة، كما قال النبي صلي الله عليه وسلم ” كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل”رواه البخاري، واعلم أيها المؤمن أن هذه الغربة سرعان ما تنقضي وتصير إلى وطنك ومنزلك الأول، وإنما الغربة التي لا يرجى إنقطاعها هي الغربة في دار الهوان، حينما يسحب المرء على وجهه إلى جهنم والعياذ بالله، فيكون بذلك قد فارق وطنه الذي كان قد هيّئ وأعد له، وأمر بالتجهيز إليه والقدوم عليه، فأبى إلا الإغتراب عنه ومفارقته له، فتلك غربة لا يرجى إيابها ولا يجبر مصابها، وإن الوطن هو جوهرة ثمينة تتعلق بها روح المرء، ولا شك بأن كلمة الوطن تعني الكثير.
وقد يترجمها الكثيرون كما يفهمون معنى الوطن من منطلق رأيهم الشخصي، ففي عهد الحضارات القديمة لم يكن هناك مفهوم شائع للوطن، بل كان يقتصر على المنطقة التي يعيشون حياتهم فيها، وحتى زمن الجاهلية لم تكن كلمة الوطن تذكر في أشعارهم لأنهم كانوا دائمي التنقل من مكان لآخر، حيث يقتصر معنى الوطن على المكان الذي يجلس فيه المرء ويسهل مفارقته، ولكن ظهر مفهوم الوطن خلال العصر العباسي على لسان الشاعر ابن الرومي الذي قال عنه أنه بلد المنشأ، وبلد الصبا والشبيبة “وطن صحبت به الشبيبة والصبا ولبست ثوب العمر وهو جديد” وقال أيضا “إذا ذكروا أوطانهم ذكرتهـم عهود الصبا فيها فحنوا لذلكا” والوطن هو المكان الذي يقيم فيه الإنسان، ويتخذ منه محلا للإقامة، وهو بمثابة المكان الذي ينتمي له الفرد سواء أكان موضع ولادته.
أم لم يكن، كما تشير لفظة الوطن إلى مرابض الأغنام والأبقار التي تأوي إليها، ويجدر بالذكر أن الوطن مأخوذة من وطن فلان بالمكان أي أقام به، وأوطن الشخص بالمكان أي اتخذه مسكنا، والموطن هو كل مكان أقام فيه الإنسان لأمر ما، وقيل عن حب الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته وحنينهم إلى وطنهم مكة المكرمة، بأنه إن كان دعاة الوطنية يريدون بها، أي الوطنية حب هذه الأرض وألفتها والحنين إليها والانعطاف نحوها، فذلك أمر مركوز في فطر النفوس من جهة، ومأمور به في الإسلام من جهة أخرى، وإن بلال الذي ضحى بكل شيء في سبيل عقيدته ودينه هو بلال الذي كان يهتف في دار الهجرة بالحنين إلى مكة في أبيات تسيل رقة وتقطر حلاوة، فكان يقول ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة، بوادي وحولي إذخر وجليل؟ وهل أردن يوما مياه مجنة، وهل يبدون لي شامة وطفيل؟.