منوعات

ديوان شعر “اصنع المدائن” للشاعرة هنا السباعي رحلة في عوالم الحنين

ديوان شعر “اصنع المدائن” للشاعرة هنا السباعي

رحلة في عوالم الحنين

بقلم الدكتور/ عبدالعزيز آدم

روائي وعضو الاتحاد العالمي للصحة النفسية

يعد ديوان “اصنع المدائن” للشاعرة هنا السباعي تجربة شعرية تتجاوز الوصف التقليدي لتصل إلى فضاءات التأمل والوجدان العميق. في هذا الديوان، لا تكتفي الشاعرة بخلق صور شعرية مميزة، بل تسعى إلى إعادة تشكيل العوالم الداخلية والخارجية من خلال الكلمة، حيث تلعب اللغة دورًا في بناء مدائن معنوية تسكنها المشاعر والأفكار.

يعكس عنوان الديوان “اصنع المدائن” نزعة إبداعية تدعو إلى تشكيل عالم خاص يتجاوز الواقع نحو فضاء خيالي أو وجداني أرحب. يوحي العنوان أيضًا بدور الشاعر كمبدع ومهندس للكلمة، قادر على بناء مدن من المعاني والمجازات.

من خلال قصائد الديوان، نجد أن الشاعرة تعتمد على لغة سلسة مشحونة بالعاطفة، وأسلوب يجمع بين الرمزية والصور الحسية، مما يجعل النصوص نابضة بالحياة. كما يبرز الحس الموسيقي بوضوح في استخدام الإيقاع الداخلي والخارجي، مما يعكس تأثيرًا واضحًا للموروث الشعري العربي.

تُعد قصيدة “يا عازف الناي”، والتي اختارتها الشاعرة لتكون على ظهر الغلاف، مدخلًا لفهم روح الديوان، حيث تبدأ بمخاطبة “عازف الناي”، وهو رمز شائع في الأدب للتعبير عن الحزن والحنين والصوت الداخلي الذي ينقل المشاعر العميقة. تقول الشاعرة:

“يا عازف الناي.. ما عرفت الحنا

بل ألقيت من كل قصيدة عنوانا”

هنا نجد مفارقة شعرية؛ فبدلًا من أن يكون الناي رمزًا للحزن المعتاد، تصفه الشاعرة بأنه لم يعرف “الحنا”، في إشارة إلى غياب الفرح أو السكينة، بينما تؤكد أن كل قصيدة تحمل عنوانًا خاصًا، مما يعكس فكرة التنوع والثراء في تجربتها الشعرية.

كما توظّف الشاعرة التكرار في نداء “يا عازف الناي”، مما يمنح النص إيقاعًا مميزًا ويؤكد على بُعده الغنائي. ومن خلال الصور البلاغية مثل “وذبت المعنى.. فوق المعنى سلطانًا”، نجد تلاعبًا جميلًا بالمجازات، حيث يتحول “المعنى” إلى شيء ملموس يتفاعل معه القارئ بصريًا ووجدانيًا. وهذا ما نجده جليًا في قصيدتي “أعشق صوتك” و “أراك رغم أن عز اللقاء”، حيث تتميز لغة هنا السباعي في تلك القصيدتين تحديدًا، والديوان بأكمله، بالعذوبة والانسيابية، ومزجت بين البساطة والعمق، مما يجعل النصوص قريبة من المتلقي دون أن تفقد بُعدها التأملي.

ومن جانب التصوير الفني: تعتمد الشاعرة على بناء صور شعرية تمتزج فيها الطبيعة بالمشاعر، والتي تعكس حالة وجدانية ذات طابع حزين. نراها جلية في الشطر:

“أنت وإن اعتزلت داري

لا زالت فوق الجدران..

ترسم الدفء وتحتوي المكان”

ومن منظور الإيقاع والموسيقى: تستخدم الشاعرة الإيقاع الداخلي والتكرار والتوازي التركيبي لتعزيز التأثير الموسيقي للنصوص، وهو ما يجعل بعض المقاطع قابلة لأن تُقرأ بصوت مرتفع لنستشعر موسيقيتها. كما هو جلي في قولها:

“أراك إذا الأبواب

تفتحت

تهل أنت كالمغترب

بشوقه للأوطان

ألقي عليك سلامًا..

ألقي أقاصيص أيامي

ألقي عليك الشعر

الذي حيرته

بالأشواق أقلامي

أذوب في ردائي

الذي اخترته أنت

يومًا”

وأكثر ما أعجبني في هذا العمل الأدبي المبدع هو البعد الفلسفي؛ حيث لا تكتفي الشاعرة بوصف المشاعر، بل تدخل في تساؤلات تأملية حول الحنين والوجدان والمعنى، كما يظهر في المقطع الأخير من قصيدة الغلاف:

“كيف بصوت الحنين الحنا..؟”

هذا التساؤل يفتح الباب أمام القارئ ليعيد التفكير في مفهوم الحنين ودلالاته المختلفة.

التقييم النقدي

يتميز ديوان “اصنع المدائن” بحس شاعري عميق، حيث استطاعت الشاعرة هنا السباعي أن تمزج بين العاطفة والتأمل بأسلوب سلس ومؤثر. كما أن استخدام الرموز مثل “الناي” و**“الحنا”** و**“المدائن”** و**“الدفء”** يمنح النصوص بعدًا فنيًا أوسع، يسمح بتأويلات متعددة.

وفي بعض المواضع، قد يشعر القارئ بأن بعض الصور تبدو وكأنها مرئية تعتمد على مجازات غير مألوفة، مما قد يزيد من عنصر المفاجأة الأدبية. لا سيما أن التنوع الأسلوبي والإيقاعي يزيد من هذا الجانب، مما يجعل الديوان تجربة شعرية ممتعة للقارئ.

يقدم ديوان “اصنع المدائن” تجربة شعرية ذات طابع وجداني وتأملي، حيث تستحضر الشاعرة هنا السباعي عناصر الطبيعة والرموز الثقافية لصياغة نصوص تعكس عمق المشاعر الإنسانية. بأسلوب سلس وصور شعرية محكمة، يدعو الديوان القارئ إلى رحلة في عوالم الحنين والموسيقى والخيال، مما يجعله إضافة مميزة للمشهد الشعري العربي.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى